للاستماع إلى الخطبة

خطبة جمعة للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في جامع المرحوم : الحسين بن طلال - عمّان - الأردن - 12 جمادى الأولى 1440هـ

بعنوان: دروس وعبر من غزوة مؤتة

الخطبة الأولى 

الحمد لله رب الأرضين والسماوات، مُكَوِّن جميع الكائنات، مُنزلِ الهدى والعدلِ والاستقامة والرشادِ والسدادِ على أيدي الأنبياءِ والمرسلين، ليستقيمَ الناسُ على أقومِ الصراطِ وأحسنِ الطُّرقِ بالثبات، وأشهد أن لا إلهَ إلّا الله وحدَه لا شريكَ له، جامِعُ الأولين والآخرِين ليومِ الميقات، يومَ يحكمُ بينهم بحُكمِه العَدْل، ويقول -سبحانه- وقولُه الفصل، وتنتهي الغاية بجميعِ المكلَّفين على ظهرِ الأرض بمختلفِ أفكارِهم وتَصوُّراتِهم ومبادئهم إلى فريقين: فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السَّعير دار العقوبات، جزاءً لِكلٍّ بما انتهجَ، وبما اختار، وبما ارتضى مما كُلِّفَ به في أيَّامِ الحياةِ المعدودات.

وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا وقُرَّةَ أعيُنِنا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، وحبيبُه الذي خَتَم به الرِّسالات، وأنْزَل عليه الآياتِ البيِّنات، وأمرَه بالتبيينِ فأحسنَ التبيينَ والدلالات، وترك الأمةَ على محجَّةٍ بيضاءَ ليلُها كنهارِها لا يزيغُ عنها إلّا هالِك، فصَلِّ اللَّهمَّ وسلِّم وبارِك على عبدِك الهادي إلى أشرف المسالِك، سيِّدنا محمَّد، وعلى آلِه الأطهار، وأهل بَيتِه المقترنين بالقرآنِ لن يتفرَّقا، وعلى أصحابه الأخيار، المهاجرين والأنصار، أهل الصِّدقِ والمحبَّةِ والتُّقى، وعلى مَن سَارَ في سبيلِهم، واتَّبعَ منهاجَهُم إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آلهم وصحبهم أجمعين، وعلى ملائكتِكَ المقربين، وعلى جميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، برحمتِك يا أرحم الراحمين.

أما بعد:

يا عبادَ الله: أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله، فاتقوا اللهَ تعالى في عُلاه؛ فإنَّ الواعظين بها كثير، وإنَّ العاملين بها قليل، تقوَى الله التي لا يقبلُ غيرها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يُثيب إلا عليها، واعلموا أنَّ مَن اتّقى اللهَ عاشَ قويًّا، وسارَ في بلاد الله آمناً

ومن ضيَّع التقوى وأهملَ أمرها ** تَغَشَّتْهُ في العُقبى فُنونُ النَّدامةِ

أيها المؤمنون بالله: أعلامُ التقوى، وحقائقُ التقوى، ومظاهرُ التقوى، ومجالُ التقوى، البارزة في الأنبياء ومَن اتبعهم بإحسان، لأهلِ الأردن في هذا الشهرِ الكريم المبارك، في شهر جمادى الأولى، إذا ما جاء مِن كلِّ عامٍ ذكرى في موقفٍ مِن أعظمِ مواقفِ ومعالمِ التقوى، لعالمِ السِّرِّ والنَّجوى، والاستقامةِ على منهجِ السَّواء، والبروز بيْن العِباد بمنهجِ استقامةٍ وهُدى ورشاد، بما كان في مثلِ هذا الشهرِ المباركِ مِن وقْعَةِ مؤتة، التي عُدَّت في الغَزَوات وهي سَرِيَّةٌ كُبرى، فيها كبارُ الصحابة الذين قادُوا تلك المعركة، وعيَّنَهم صلى الله عليه وسلم، وتمَّت على أيديهم الفُتوحات، ولقد كانت الأردن بوابةَ فَتْح الإسلام، وإشراقَ نورِه على الأنام، لإخراجِهم مِن الظَّلام، إلى منهجِ ملكٍ علَّام، خلاصتُه ما قال سيدُنا ربعيُّ بن عامر: الله ابتعَثنا لنُخْرِج العبادَ مِن عبادةِ العبادِ إلى عبادةِ ربِّ العباد، ومِن جَوْر الأديانِ إلى عدلِ الإسلام، ومن ضِيق الدنيا الذي كان يعيش فيه فارس والروم، وكبار الدول على ظهر الأرض، سمَّاه الصَّحابي بنظرته الفاحِصَة: "ضيقَ الدنيا"، إلى سعتِها، أو إلى سعةِ الدنيا والآخرة.

إنها كلماتُ مَن أدْرَك، وسَلَك خيرَ مسلَك، وعرف مَن الذي ينجُو ويحيى، ومَن الذي يخسر ويهلَك، إنها نظراتُ السُّموِّ والرِّفعةِ وامتداد النظرِ إلى الأمَدِ البعيدِ الطويل، بل نظرٌ إلى غيرِ أمَد؛ إلى دوامٍ وبقاءٍ وخلود، يتميَّزُ به أربابُ الوفاءِ بالعهود، ممَّن عرفَ عظمةَ الإلهِ المعبود، وعرَف عَبْدِيَّتهُ، وقام بعبوديَّتِه، وعلم مَن خَلَقَهُ ولماذا خلقَهُ على ظهرِ الأرض.

أيها المؤمنون بالله: كانوا يَحمِلونَ عَلَماً من عَلَم التقوى، منشوراً لهم بيَدِ الأتقى على الإطلاق، ومَن الأتقى في الخلْقِ على الإطلاق؟؛ ذاكم حبيبُ الخلَّاق، ذاكم نبيُّكمُ الذي به هداكم، وأرشدَكم ودعاكُم، وجعلكَم خيرَ أمةٍ أخْرِجَت للناس، الناسُ مِن حيث هم ناس مِن أيامِ آدم إلى أن تقومَ الساعة لن يجدوا خيراً من أمةٍ قائدُها محمد، مَن كلِّ مَن انقادَ لأمرِ هذا القائد، واتَّبعَ مَسْلكَ جامِعِ المحامِد، حبيبِ الأحَد الواحِد، محمَّد صلى الله عليه وسلم، هي خير أمَّة أخْرِجت للناس، الناسُ من حيث هم ناس لن يجدوا أشرفَ مِن هذه الأمة، ولا أكرمَ، لكن أي أمَّة؟؛ أمَّة محمد، ومن أمَّة محمد؟؛ من كان هواه تبعاً لما جاء به محمد.

ومَن كان مِن هذه الأمة يُداخلُه الهوى فيَخرُج عن سبيلِ محمَّدٍ السَّواء، ويَلْوِي النصوصَ، ويَلعبُ بالآيات والأحاديث كما يشاءُ هواه، أو هوى حِزبِه، أو هوى فئتِه، أو هوى اتجاهِه، فليسوا مِن خير الأمَّة الذين لهم خيرٌ للناس وأشرفُ للناس، بل ربما كانوا سبَبَ الإتعاب للناس، وسبَبَ السوءِ في الناس، وسبَبَ القلقِ في الناس، وسببَ الشدائد في الناس، لكن الذين كانوا على ذلك المنهاج لن يجدَ الناس خيراً منهم، لن يجدَ من يُقاتلهم ويُحاربهم ويؤذيهم خيراً منهم، فضلاً عمن لا يُقاتلهم!، الذي يُقاتلهم لن يجد خيراً منهم، أربابُ عهد، أربابُ ذمة، أربابُ وفاءٍ، أربابُ قِيَمٍ، أرباب مبادئ.

خرجوا إلى هذه الغزوةِ المباركة ولِسانُ النبوَّة تُملي عليهم سلامةَ المنهاج وعظمته، ومعَالِم التقوى فيه: ((اغزُوا في سبيل الله، قاتلوا من كفَر بالله، قاتلوا ولا تغلوا، قاتلوا ولا تقتلوا امرأة، ولا وليداً، ولا شيخاً فانياً، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا مُنعَزِلاً في صومَعَتِه، لا تقتلوا مُنعزلاً في صومعته))، يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ((ولا تَهدِمُوا بِناءً))، إرشادات صاحب الرسالة، إرشادات سيِّد المجاهدين، وأعظم الخلق غَيْرةً على الله وعلى الدِّين، يَحملُ المبادئ للأمَّة، هذه وصِيَّتهُ بمن؟!؛ بمن يُقاتل، بمن ابتدأ بالظلم، بمن تَخطَّى الحدودَ للإنسانية ولِلْعُرف المنتشِر في العالم في ذلك الوقت، الذي قد يُعَبَّر عنه في زمانِكم بـ(القانُون الدَّوْلي) وما إلى ذلك، قد كان قد سَادَ بين الناس أنه جميعُ الفئات والاتجاهات لا يُقتل بينهم سَفيرٌ، لا يُقتل بينهم رسول!، رسول من جِهة مُعيّنة بينك وبينها قتال لا تتعرض لهذا الرسول الذي يحملُه خبرَهُم إليك، وخبركَ إليهم، ويُوصل لِسان التَّفاهم بينكم وبينهم، أو لسان الترتيب لما يكون من شأن هذه المسالِك، لا يُقتل رسول، تَعدَّوا الحدود، والإنسانية، والعُرْفَ العالمي.

وقتَلوا سيدنا الحارث بن شرحبيل عليه رضوان الله، قتلوه وهو رسولٌ لرسول الله، جاء برسالة إلى ملِك الروم، يخاطبه فيها رسولُ الحي القيوم، بما أرسلَه به إلهُه، إله الكل، وخالِق الكُل، ويُنبِئُه أنَّه رسولٌ من عند الله لهداية خلقِ الله، وأنه أن يُسلِم أو لا يمنعَ ظهور الإسلام ونورَه عن شَعْبِه، وعن رعاياه، وإلا تَحمَّلَ إثْمَ الأريسيِّين، خَتَمَ الكتاب بقولِه بعد أن استفتحه بـ(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى هِرَقل عظيم الروم)، لقَّبه بلقَبِه في عظمتِه الدنياوية والمُلكية، التي كانت في وقته وزمانه، بل كان رئيس دولة نحو نصف العالم في ذلك الوقت تحت هَيْمَنتِه، ((إلى هرقلَ عظيم الروم، سلامٌ على من اتّبع الهدى))، وما أعْجبَهُ مِن خِطاب، وما أعجبها مِن تَحيِّة مُترفِّعة عن أنْ تنالَها مَن لا يستَحِقُّها، وعن أنْ تُغْلقَ البابَ في وجْهِ مَن يريدُ الهدى، ((سلامٌ على من اتَّبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوكَ بِدعاية الإسلام: أسلِم تَسْلَم، أسْلِم يُؤتِكَ الله أجركَ مرتين، فإنْ تولَّيتَ فإنَّما عليك إثمُ الأريسيين، و{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِن دُونِ الله}[آل عمران64]، رسالةُ مساواةِ البشرِ في الحقِّ العام، بالمعنى: إقامة العدلِ بينهم، والمعنى: تثبيتُ العُبودية لهم، وتخصيص الربِّ بالربوبِيَّة، وتخصيص الإله وحده بالألوهية، { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوْا اشْهَدُوْا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }، وختَمَ علَيها بخاتمه الكريم.

 لما ابتدأ يُراسِلُ الملوك، قالوا: لا يقبلون كتاباً إلا مختوماً، فأعَدَّ خاتمَه الكريم، ونقشَ فيه ثلاثةَ أسْطُر: (محمدٌ رسولُ الله)، وكان يَخْتِم به الكتب، ومن أدَبِه الجَمْ مع الإله الأعظم أمَرَ الكاتِب وهو أمِّيٌّ صلى الله عليه وسلم، أمر الكاتبَ أن يجعلَ اسمَه آخِرَ الخَتْم، وأن يجعل فوقَه لفظة: (رسول)، وأن يجعل اسم الجلالة أعلى واحدة فوق؛ ليكون اسم الله أعلى، فتقرأها من تحت: (محمدٌ رسول الله)؛ ليكون اسمُ الله فوق اسم محمد، ما أعجبَ أدبَ محمَّدٍ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، وما أعظم تعظيمَه للواحد الأحَد.

وكتب الكتاب، وقُتل هذا على يدِ العامل لهرقل مَلِك الروم، وقُتل ذلك الرسول الحارث عليه رحمة الله تبارك وتعالى، وجاءت إقامةُ الحقِّ والعدل والهدى على يَدِ نبيِّ الهدى، والغَيْرَةِ أن لا تنفتحَ الأبواب لِظُلمِ الناس والاستبداد عليهم، وقتل الرُّسل الذين في أعراف العالم والإنسانية في ذلك الوقت لا يُتعرَّض لهم ولا يُقتَلون، بل وصَلَ إليه رُسُلٌ من رُسُلِ دولة محارِبةٍ معاديةٍ، بل تَحَدَّته بأن تَأخُذَهُ من بَلَدِهِ من المدينة المنورة لِتُرسِل به إلى فارس وإلى كِسرى، وجاء الرسولان، وكانا منهما ما كان، فقال سيد الأكوان: ((لولا أن الرُّسلَ لا تُقتل لأمرتُ بضربِ عنقكما))، من المحاربين المقاتلين، وجاءوا بالسُّوء والشَّر، يريدون أخذَ ذاتِ النبي من وسَط المدينة، ولكنَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لولا أنَّ الرسُل لا تُقتل))، أنا أحترم المبادئَ التي فيها حمايةٌ لشئونِ الناسِ على العموم، وللمبادئ وللدماء، هكذا كان شأن سيِّدِ الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وأرسلَ الجيشَ مِن ثلاثة آلافٍ، يقول فيهم صلى الله عليه وسلم: ((يكونُ عليكم)) أي أميراً ((زيدُ بن حارِثَة، فإن قُتِلَ فجعفر بن أبي طالب، فإن قُتِلَ فعبد الله بن رواحة، فإن قُتِلَ فليَتخَيَّر المسلمون مِن بينهم رجلاً))، يقولُ بعض اليهود لبعض المسلمين: أتُصَدِّقونَ رسولَكم؟، قال: بلى إنه الصادق، قال: إنَّ الثلاثة سَيُقتلَون؛ ولو عدَّ النبي مائةً لقُتِلوا، إن قال: إن قُتِل.. إن قُتِل، ولقد عَلِم الثلاثة أنهم سَيُقتَلون وخرجوا، وفيهم أحبابُه صلى الله عليه وسلم: سيدنا زيد بن حارثة حِبُّه وأبو حِبِّه عليه الرضوان، وهو حَريصٌ عليه، وشَفِيقٌ عليه، ولكنه هَيَّأه لهذا اللقاءِ للحقِّ جل جلاله بهذا الحال، والآخر الذي فَرِحَ به قبلَ عام، لما ورد إليه عام خَيْبر قبل سنة واحدة، ما هي إلا سنة وأشهُر فوَدَّعه جعفر بن أبي طالب الذي قال: ((لا أدري أنا بأيِّهما أُسَر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر))، رضي الله عنه، وقال له: ((أشْبهتَ خَلْقي وخُلقي))، وأرسله في تلك الحادثة.

 ودخل إلى بيته بعد أن أُصيبَ في مؤتة، دخل إلى بيته وأخذ صبيانَه وأولادَه يُقَبِّلهم وتَذْرِفُ عيناه، حتى قالت أسماءُ بنت عميس: ما لَك يا رسول الله؟!، أأُصِيب جعفر؟، أنَالَ جعفرَ شيء؟، قبل أن تَصِل الأخبار من طريق الظاهر، ولكن رسول الله كان يُنبِئ -مِن اهتمامه بالحادثة والغزوة- عن الغزوة في وقت قيامها، ويقول وهو بين أصحابه في المدينة: ((تقدَّم زيدُ بن حارثة، حمل الراية، جاهد، قاتل، الآن قُتِل، أصيب!))، ثم يقول: ((فَحَمَلَ الرَّاية جعفر))، وينظر ويقول لهم: ((قُطِعت يده اليمنى، حَمَلَ الراية باليسرى، قُطِعت يده اليسرى))، قليلاً ويقول: ((حَمَلَ الراية بَعَضُدَيه، أثَخْنَتهُ الجِراح))، وقعَ على الأرض وأمَرهم بحمل الراية، انْتَحَوا به إلى ناحِيَة -عليه الرضوان- وقدَّموا له الماء، قال: إني صائم!، قالوا له: أفطِر وتصوم يوماً آخر، قال: أشتهي أن أفْطِرَ في الجنة، رضي الله عن أولئك القوم.

وتَرادَّ المسلمون بينهم فحملَها خالد بن الوليد عليه رضوان الله، والنبي في المدينة قال: ((والآن احتَمَلها سيفٌ من سيوف الله سَلَّهُ على المشركين: خالد بن الوليد))، رضي الله تبارك وتعالى عنه وأرضاه، وكان ذلك التَّكْتيك في خطَّةِ خالد، وقد استقبل الثلاثةُ الآلاف مائتَي ألف!، مائة ألف من المجَنَّدين المسلّحين من قِبل الروم، الذين أخذُوا أحدث الأجهزة، وأحدث التدريبات العسكرية، وانتظموا ليقاتلوا المؤمنين، وانضافَ إليهم مِن نصارى العرب والقبائل مائةُ ألفٍ آخرين، بل جاء في بعضِ روايات السِّيرَة أن خمسين ألفاً انضافوا إليهم، فكانوا مائتين وخمسين ألْفَ مقاتل أمام ثلاثة آلاف!، والنتيجة: هربَ المائتان والخمسون الألف، ورجع الثلاثةُ آلاف بنصرٍ وتأييدٍ مِن الله.

اللهم املأ قلوبَنا بالإيمان واليقين، اللهم احْيِ حقائقَ التقوى في قلوبِنا، اللهم انظر إلى المؤمنين نظرةً يُدرِكون بها حقيقةَ تقواك، وعلمك للسر والنجوى، فيخشَونك مع مَن يخشاك، ويطلبون رضاك، ويَخرجون من مَكْرِ إبليس بهم ومن شايَعَه من الموقِعين بينهم الخِصام والقتال والمنازعة، يا رب العالمين.

والله يقولُ وقوله الحقُّ المبين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُوْا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف204]، وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ }[النحل98]

 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة249]، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوْا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[آل عمران123]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوْا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوْا وَاذْكُرُوْا اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوْا الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوْا فَتَفْشَلُوْا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوْا إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ }[الأنفال45-46].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، وثَبَّتنا على الصراطِ المستقيم، وأجارنا من خِزيِه وعذابِه الأليم، أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولوالدِينا ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله خالِقِ السَّماوات والأرَضين، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحْدَه لا شريكَ له، جامِع الخلائقِ يوم يقومُ الناسُ لربِّ العالمين، وأشهدُ أنَّ سيِّدنا ونبيَّنا محمداً عبدُه ورسولُه الصادقُ المجتبَى الأمين، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك المصطفى محمدٍ، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الميامين، ومَن تبعهم مِن المحسنين، وعلى آبائه وإخوانِه مِن النبيِّين والمرسلين، وآلهم وصحبِهم، والملائكةِ المقرَّبين، وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.

 أما بعد:

عبادَ الله: فالنِّداء لكلِّ ذي لُبٍّ، وكلِّ ذي بصيرة، وكل ذي عَقلٍ مِن البشرِ على ظهرِ الأرض: إلى كَم تُكَرِّرون المآسي، وتتعامَون عن التقوى، وعن سبيلٍ أقْوَمٍ أقوى، ومبادِئ مِن ربِّ السماء نَزَلَت إليكم يا ساكنون على ظهر الأرض فترةً قصيرة، ما أقصرَها، وما أسرعَ فناءَها، رتَّبَ لكم فيها شئونَ التعامل، ورتَّبَ لكم فيها شئونَ تبادُلِ النَّظرات والخبرات، والتَّعايُشِ الذي يقومُ على عدلٍ، وبِرٍّ، وقِسطٍ، وتقوى، بل ويدعو إلى إحسانٍ، وفضلٍ، ومَرْحَمَةٍ، وبِرٍّ. جَعلَ بين أتباع الحق والمهتدين بهديِ الله وبين كلِّ مَن لا يقاتِل، وكُلِّ مَن لا يحارب، وكل مَن لا يؤذي، وكل مَن يُلقي السَّلَم بِرًّا وقسطاً لا يتخلَّفون عنه، وحَرَّمَ على المجاهدين المقاتلين أن يُقاتلوا مَن لا يُقاتِل، بل أن يُعْرِضوا عن المدْبِر مِن المقاتلين، ولا يُقاتلوا إلَّا مَن تعرَّض لقتالِهم أو أعانَ على قتالهم، هل يوجد في أنظمةِ العالم أسْمى من هذا؟!، أشرف مِن هذا؟!، أكْرَم من هذا؟!.

يا أربابَ العقول: إلى متى المآسي تِلو المآسي؟!، إلى متى الانحطاط الإنساني البشري على ظهر الأرض، والناس في هذه العِمايات، بل في هذه التَّجَنِّيات، لا يزال يُسمَع الأمرُ يَمنةً ويَسْرة، وشمالاً وجنوباً، من التَّساهُل بالإنسانِ ودمِ الإنسان، وعِرْضِ الإنسان، ومالِ الإنسان.

أيها المؤمنون بالله: أنتم أولى أن تتأمَّلوا مثلَ هذه المعَالِم في التقوى، مثل هذه المعركة، مثل هذا المسلك القويم، والصراط المستقيم، وتحملوه للأمة، مالكم تَدُسُّونَ رؤوسَكم في وقتٍ يجبُ أن تُبْرِزوا عِزَّ الشريعة والدين والإسلام، بمناهجِه القويمةِ السَّماوية، أيُّ قانونٍ في الأرض أعْدَلُ مِن قانونِ ربِّ السماء والأرض؟!، أو أجمل، أو أكمل، أو أتَمّ؟!، أين مَن يَعِيه؟!، فِيمَ تَكرُّر هذه المآسي بالأمَّة والبَشَر؟!؛ إنه التَّعامِي، إنه التَّصَامُم، إنه العمى لحبِّ السلطان أو الجاه أو حبِّ المال والاستئثار به، وإلى متى يلعبُ هذا بالناس؟ مِن أيامِ قابيلَ مع هابيلَ ولدِ آدم، وهكذا يمشون وهكذا يمشي من لم يُدْرِك أحَدَ عِصْمَتين:

العِصْمَة الأولى الكبرى: إيمانٌ صادقٌ بالذي خلق، يَنْتَهِجُ فيه منهج الأمانة والمبادئ السَّامِية.

والثانية: عقلٌ رشيدٌ، يحملُ صاحبَه بِحُكم الفِطرة على أنْ يَكُفَّ عن الظلم والاعتداء، والتَّحَيُّل والمكرِ والكذبِ والخِداع والشِّعارات الكاذبة، ليَحْمِيَ الدماءَ مِن حيثُ هي دماء، وليحميَ الأموالَ، وليحميَ الأعراضَ.

ومَن لم يدركْ هذا، لا بإيمان ولا بعقلٍ فمهما قال، ومهما تظاهرَ، لا تنتظر منه إلا أن يخُون، ولا تنتظر منه إلا أن يَتَعَدَّى، وأن يتَحدَّى القوانينَ والأعرافَ والمبادئَ، و غير ذلك، مصيبةُ الخلائقِ بُعدُ تزكيةِ الحقِّ، وبُعد استثارةِ العقولِ والفِطَر السليمةِ على ظهرِ الأرض، التي أشار إليها باحترامِ المنعزلِين في صوامعِهم، أليست شرائعُهم قد نُسِخَت؟!، أليس قد بُعث رسولُ الحق الذي بَشَّرَ بِه سيدنا عيسى!؟؛ نعم، ولكن مع ذلك قال: اتركوهم في أماكنهم وعباداتهم ولا شأن لكم بقتالِ إلا مَن قاتَل وتعدَّى وصدَّ عن سبيلِ الحقِّ والهدى، ما أعظمَها من مِلَّة، وما أعظمَها مِن شريعة.

بَدَّلَ خالدُ بن الوليد الميسرةَ مَيْمَنَة، والميمنةَ ميْسَرة، وأمر قوماً أن يأتوا في الصباح أو عند الزوال فيظهروا على الجيش، وأمرَهم أن يأتوا أرْسالاً مُتتابعين، وأن يُوقدُوا في الليل ناراً مِن ورائهم، وأصبحوا الصباح يقولون: هذا مَددٌ جاءهم مِن عند محمد مِن المدينة!، ويرون الغبارَ يَثُور، وفي الليل النيران بعيدة أيضاً تشتعل، فَدَبَّ الرُّعبُ في قلوبِهم، وقرَّر قادةُ المائة والخمسين الألف أن ينسحبوا، وانسحبوا وتأنَّى بهم خالد حتى انسحبُوا وتأنَّى بهم، حتى فرُّوا فراراً، فوقف، وعاد بما معه مِن غنيمة، وعاد إلى المدينة المنورة، وخرج رسولُ الله يستقبلهم، وصاح عليهم بعض الصحابة: أنتم الفُرَّار؛ لمَ رجعتم؟!، تابِعُوا وقوموا بالأمر، قال: ((بل هم الكُرَّار إن شاء الله))، عليهم رضوان الله.

ألا ما أعظمَ المنهجَ الذي جاء به محمدُ بن عبدالله، يا رب صلِّ على هذا المصطفى، الذي قلتَ في حقِّه تعظيماً وتكريماً: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب56]، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك المصطفى سيدِنا محمد، وعلى الخليفةِ مِن بعدِه المختار، وصاحبِه وأنيسِه في الغار، أهلِ الخلافة ومُستَحقِّها بالتحقيق، خليفةِ رسولِ الله سيدِنا أبي بكر الصديق، وعلى النَّاطِق بالصواب، حَلِيف المحراب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب، وعلى النَّاصح لله في السِّر والإعلان، مَنِ استحيَت منه ملائكةُ الرحمن، أميرُ المؤمنين ذي النورين سيدُنا عثمان بن عفان، وعلى أخي النبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّه وبابِ مدينة عِلمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب، وعلى الحسن والحسين، سيِّدَي شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانتَي نبيِّك بِنَصِّ السُّنة، على أمِّهما الحوراءِ فاطمةَ البتولِ الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى، وعائشةَ الرضى، وأمهاتِ المؤمنين، وعَمَّي نبيِّك الحمزة والعباس، وعلى أهلِ مؤتةَ مِن صحابةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم، لاسِيما قاداتهم الأكرمين، ومن ضَمَّتهم أرضُ الأردن مِن أولئك الصحابة الأكرمين: معاذُ بن جبل، وأبو عبيدة بن الجرَّاح، وبقية الصحب الأكرمين، ومن ضَمَّتهم من النبيِّين وتابعيهم بإحسان، وعلى جميع أنبيائك ورُسلك وصالحي عبادك، وعلينا معهم وفيهم، برحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم انظر إلى المؤمنين نظرةً تَدفعُ بها العناء، والبلاء والآفات، والالتفات إلى ما سِواك، وإيثار غيرِك عليك، أيقِظ قلوبَهم، وروِّح أرواحَهم، بِنَسيم الصدقِ والإخلاص، وارزقهم حِمايةَ المبادئ السَّاميات، والعدلَ والعِزَّة والكرامة للمؤمنين والمؤمنات، اللهم وَرُدَّ كيدَ الكافرين وأعداءَ الدين، مِن المقاتلين والمحاربين والمعتَدِين والغاصبِين والظالمين، وادفع شرَّهم عن جميعِ المؤمنين، وأوْزِع المؤمنينَ أن يُوفُوا عهدَك الذي عاهدتَهم عليه، اللهم وخذ بِيَدِ مَلِك هذه البلدة الملك عبد الله الثاني إلى كلِّ ما فيه الخيرُ والهدى والرَّشاد والصلاح والفوز والنجاح، وخُذْ بِيَدِ مَن أعانَه على ذلك، من جماعاته وأهل دولتِه، وانظر إلى المؤمنين راعياً ورعيَّة، وادفع عنهم كلَّ بَلِيَّة، وكلَّ أذِيَّة، وأصلِح لنا ولهم كلَّ ظاهِرَةٍ وخَفِيَّة، وأدِم في هذه المملكةِ أمناً وإيماناً، وطُمأنينةً وسكينةً وخيراً، وادفعِ الشَّرَّ عنا وعن أهلِ لا إلهَ إلا الله في المشارق والمغارب، يا دافعَ المصائِب، ويا كاشفَ النَّوَائِب، ويا مَن بيدهِ أمرُ الحاضرِ والعَواقِب، يا ربَّ جميعِ الخلائق، يا حيُّ يا قيُّوم، يا أكرمَ الأكرمين، ويا أرحمَ الراحمين، اغفِر لنا وللحاضرين في جُمْعَتِنا، وآبائنا وأمهاتِنا، واغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أحياهم والأموات، يا مجيبَ الدعوات، يا قاضيَ الحاجات، يا ربَّ العالمين، نسألك لنا ولهم وللأمةِ مِن خيرِ ما سألك مِنه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، ونعوذُ بك مِن شرِّ ما استعاذكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، وأنت المستعان، وعليك البلاغ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم.

عبادَ الله: إن اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث:

{إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَّكَّرُونَ }[النحل90]

 فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُركم، واشكروه على نعمِه يَزِدكُم، ولذكرُ الله أكبر.

للاستماع إلى الخطبة

لمشاهدة الخطبة

 

 

تاريخ النشر الهجري

14 جمادى الأول 1440

تاريخ النشر الميلادي

20 يناير 2019

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

الأقسام