شرف الوجهة إلى الحق وإرادة وجهه

للاستماع إلى المحاضرة

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في دار المصطفى ليلة الجمعة 28 صفر الخير 1439هـ ضمن سلسلة إرشادات السلوك بعنوان: شرف الوجهة إلى الحق وإرادة وجهه.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله جامعِكم على فضلِه بفضلِه، الذي يمنُّ على المقبلين بطَوْلِه ووصلِه، لا إله إلا هو شرَّفَنا بخاتَمِ رسلِه، اللهم أدِم صلواتِك على البدرِ المنير والسراجِ المنير البشير النذير، عبدِك المصطفى سيدِنا محمد، وعلى مَن سار في منهجهِ الأرشد، مِن آله وصحابتِه وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وآبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبِهم أجمعين، والملائكة المقربين، وجميعِ عبادِ الله الصالحين.

أيها الأحباب.. يَعُجُّ العالمُ بأنواعٍ من الدعوات والأطروحات والأفكار والتَّناديات والتحسينات للأمور الكثيرة والتقبيحات لأمورٍ أُخَر، وكلُّ تحسين وتقبيحٍ، وكلُّ دعوةٍ من هذه الدعوات قامت على فاني واتصلَت بفاني، فليس عيشُ أصحابِها بهاني، وليس لهم حقائقُ العِز والشرف على وجهِ الحقيقة.

ولكن دعوة الحق وما حسَّنَ ودعا إليه الحق، ودعوة رسولِه المصطفى التي تُنادي منَّا العقولَ والقلوبَ والأرواح، مُلَبُّوها والمستجيبون لها وحدَهم على ظهر الكرة الأرضية هم الذين يَرِدون الحوضَ في يوم القيامة، وهم الذين يُظلُّون بظلِّ العرش، وهم الذين يدخلون تحت لواء الحمد الذي يحمله نبيكم؛ ومَن فقد هذا فلو فرضنا ليس في أيام معدودة، عشرين سنة ثلاثين أربعين قريب منها عاش في بهرجة ومظهر من مظاهر الدنيا، من أيام آدم إلى أن قامت الساعة وهو في ذلك العيش ثم فاتَه ذلك الخيرُ.. والله ما استفاد ولا سَعِد ولا ربح ولا نجح ولا أفلح، وستدوم له الحسرات، وسيبكي.. وهذا حالُ أكثرِ مَن على ظهر الأرض.

ومجمعٌ مثلُ ذا المجمع مِن مظاهر فضلِ الله تعالى في الأمة، تجتمعون فيه على المولى جل جلاله، وتسمعون مِن الألسن المختلفة الدعوةَ إلى حقائقِ اتصالٍ بالخالق وخيرِ الخلائق صلى الله عليه وسلم، ربما تنكَّرت لها نفوسُ وعقولُ غير المؤمنين، وبعض المؤمنين الذي لم يعُوا حقائقَ الوحي والتنزيل، ولم يتصلوا بمعرفةِ الأصل والدليل، عن طريق خيارِ الأمة جيلاً بعد جيل، فكانت عندهم مِن المفاهيم ما حرمَتهم سرَّ الاتصال وسرَّ الوصال وسرَّ صدقِ الإقبال، وما خطلَت في قلوبهم دعوى محبةِ الله والدار الآخرة بمحبةٍ لغير الله، لا تجتمع مع محبةِ الله جل جلاله وتعالى في علاه.. والله ينقذهم، والله يصلحهم، والله يهديهم.

تتلقون هذه الإشارات إلى دعوات الاتصالات بالحق وبرسوله، وتختمون شهرَ ظفر الخير، الله يختم لنا وللأمة بخير، ويجعل شهرَ ربيع الأول المقبل شهرَ فرجٍ للمسلمين، وغياثٍ للمسلمين، وصلاحٍ للمسلمين، وجمعٍ لشملِ المسلمين، ودفعٍ للبلاء عن المؤمنين، إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وأنوارُ هذه الدعوات كما ترون الآثارَ لها، الشيخ جلال الدين عليه رحمة الله، هذا الحضرمي اليمني الذي وصل إلى بنقلادش.. كم له مِنذ وصل؟ مئات السنين، ما تجدُّدُ ذكرِه هذا؟!، وما بقاءُ أثرِه هذا؟!، سرُّ اتصالاتٍ بالباقي، مِن الصالحين الذين ظهروا وأظهرهم الله رحمةً للأمة في الشرق والغرب، في خلال هذه الأعصر والقرون كم أظهر الله ملوكاً ورؤساءَ واتجاهاتٍ وأحزاباً وحروباً وأشياءَ كثيرة، ونحن في الدنيا اضمحلت شؤونُ أهل الدنيا وأهل الفناء، ولم يبقَ لهم ذكرٌ جميل، والحال بعد ذلك أكبر فيما هو مقبل، فلا ما يُكرم به المؤمن في هذه الدنيا يساوي شيئاً بالنسبة لما يكرمه الله به في العُقبى، ولا ما يُصيب أهلَ الكفر وأهلَ الفِسق في هذه الدنيا من الضَّعَة أو الذلة أو المشقة أو يُسخَّر لهم مَن يسبهم وما إلى ذلك، كل ما يصيبهم ليس بشيء بالنسبة لما يلاقونه مِن العذاب الأشق، والعياذ بالله تعالى.

فيسَّر الله لنا تجديدَ عهودٍ بيننا وبينه، ومجيء أمثال هؤلاء الوفود الذين يتوافدون، ويجدِّدون العهود السابقة برجال الصدق والإخلاص الذين أضاءت بهم القلوب بنورِ الإسلام في تلك المحافل، وجاؤوكم مِن كبار علماء جاكرتا وما حواليها إلى هذه البلدة، وصادفوا أن لا يجدوا طريقاً إلا عبر البَر، مشوا بالجو دولا كثيرة إلى الحرمين الشريفين ثم وصلوا، ومِن صلالة بالبر واصلين إلى عندكم في هذا الطريق الطويل، فيهم شيوخ كبار السِّن.. ما يحملهم على هذا؟!! ما يزعجهم للقيام بهذا؟!، ما يدفعهم؟!!، ما يوجه قلوبَهم لهذا؟!، لولا العناية مِن فوق، لولا المعرفةُ بمعنى فوق وحصول الشوق، بعد أن جالسُوا أكابر مِن رجالنا وأكابرنا وصلحائنا، فسُقيت قلوبهم بما سُقيت، واشتاقت أن تختم الأعمارَ من آثار السُّقيا بما هو أرقى وأصفى وأوفى، وهكذا شأنُ كلِّ مَن سُقي أن يتعشَّق الجمال فلا يزال في علوٍّ على توال على مدى الأيام والليال.

ومَن ذاق طعمَ شرابِ القوم يدريه *** ومَن شراه غدا بالروح يفدِيه

وهذه علائقُ بين الخلائق، مآلها لقاءاتٌ في البرازخ، واجتماعاتٌ في ظل العرش، ولقاءاتٌ على الحوض المورود.. فما قيمةُ ما لا يثمر هذا من أنواع الصِّلات، ومِن أنواع تلكم العلاقات القائمة بين الناس على مختلف أصنافِها.

يا جمعاً يُباهَى بهم الملأ الأعلى: لله الحمد.. ما جمعنا وإياكم، وعلى ما أكرمنا وإياكم، أحسِنوا الاستقبالَ لهذه الأيام والليال، ففيها مِن عطاء الله والإفضال، وجودِه والنوال ما لا يخطر على بال، ولكن بحسب الاستعدادات يحظى بالنصيب مِن تلك الإمدادات..

أكرم بشهرٍ إذا ما هلَّ ذكرنا *** ميلادَ طه وما في ذاك مِن عجبِ

يا مرحباً بك يا شهرَ السعادة إذ *** ذكَّرتَنا المصطفى مِن عبدِ مطلب

صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.

ومآلُ كلِّ مؤمنٍ لا يقدر يغالط نفسه، على قدر ما في نفسه من إيمان يحنُّ إلى ذكر ِالحبيب شاءَ أم أبى، على قدرِ ما في نفسه، وإن طال مَن طال منهم، مجادلات وكلمات، ولماذا الاحتفالات!؟ يجي يوم يقول خلاص، إيش خلاص؟! هذا ضرورة، هذا أمر حتمي، مسائل ما تحتاج جدال، ولا تحتاج وقوف عندها، أذواق مقترنة بـ(لا إله إلا الله)، كيف ما يُعشق ذكرُه، كيف ما يُحتفل به!، مَن أحق؟!، مَن أولى؟!، مَن فضَّل الله؟!، من كرَّم الله؟!، ما قدَّمَ اللهُ عليه أحداً صلى الله عليه وسلم.

فالحمد لله على هذه المنن، والله يثبتنا في السر والعلن، ويبارك لنا في مظاهر رحمة الله تبارك وتعالى، التي ينطوي فيها الخير، حتى للذين غاب عليهم إدراكُ معناها، وربما بنفسٍ عاداها، وهي خيرٌ له لو أدرك، فمهما لم تسبق عليه سابقةُ الشقاوة فسيصله خيرُها، وسيرجع إلى أمرِها قبل وفاته، ولكن إبليس وجنده، ما نصنع بك سبقت عليك الشقاوة وعليك اللعنة إلى يوم الدين، ازدَد غيظاً ومُت بغيظك، ومَن سبقت عليه الشقاوة مِن جندك من الإنس والجن.

رايات عُقِدت بيد نبوة، وحملتها وراثاتُ النبوة، لا تظن أن خطةً في الأرض ستهزمُها أو تُبعدها أو تزيلُها، وقبلنا قالوا في محاولات تمر وتحوم حول هذه الأرض:

يريدون أن يطفئوا بأفواه زُورِهم *** مصابيحَ نورٍ قد محَت لظلام

مِن السلف الماضين والخلفِ الذي *** كرام السجايا أعقبت بكرام

أولئك وُرَّاث النبي ورهطُه *** وأولاده بالرغم للمتعامي

نورُهم مِن نور الله، ولا يُطفأ نورُ الله، فيه الخير والرحمة للكل، ما الذي يحملنا على أن نكره رحمةَ الله، أو نكره سببَ قُربِنا من الله، أو نكره فضلَ الله سبحانه وتعالى علينا، وقد عاب الله على أهل مكة وبينهم البدر المنير، آذوه حتى أخرجوه، ثم أنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله } نعمة الله عندكم جاءت وخير الله وصل {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } بمعادات المختار صلى الله عليه وسلم. جعلنا الله وإياكم مِن أنصارِه حقيقة.

 اللهم بارِك في الجمع ومَن فيه، ونظرَ الله إلينا نظرة يجعل بها شهرَ ربيع الأول هذا المقبل علينا شهرَ فرج لأمة النبي محمد، شهرَ فتوحات لأمة النبي محمد، شهرَ خيرات لأمة النبي محمد، يا رب محمد.. يا مرسل محمد.. يا مَن جاءنا عنك محمد بالهدى والرَّشَد أغِث أمةَ نبيِّك محمد، تدَارَك أمةَ نبيِّك محمد، أصلِح أحوالَ أمة نبيِّك محمد..يا الله.. يا الله.

نادُوا السميعَ القريب، نادُوا الرحيمَ المجيب، نادُوا ذا العطاء الرحيب، نادُوا مَن هو أقرب إليكم مِن حبل الوريد، نادُوا الحميدَ المجيد، ادعوا الحاضرَ الشهيد، اسألوا البرَّ الودود، توجَّهوا بزينِ الوجود يُتحفكم الله بخيرٍ غير معدود، وفضلٍ ليس له مِن حدود.

يا بَرُّ يا ودود.. نسألك بزينِ الوجود، أن تجعلنا وهؤلاء على حوضِه في القيامة مِن أوائل الوفود، من حَضَر ومَن يسمع، ومَن والى فيك، اجعلنا في اليوم الموعود على حوضِه مِن أوائل الوفود، يا بر يا ودود، اجعلنا في اليوم الموعود على حوضِه الكريم مِن أول الوفود.. آمين، لا تخلَّف منا والدٌ ولا مولود، يا برُّ يا ودود يا الله، اجعلها ساعةَ إجابة، وعرِّف الوجوهَ على بعضِها البعض على حوضِ المظلَّل بالسحابة، يا خيرَ مجيب، يا أكرمَ مستجيب، يا ربنا يا قريب.. يا الله.

أنتم وفدتُم على الرحمن بمجيئكم تقصدون وجهَه جل جلاله، والله يُلحِقنا وإياكم بركبٍ عناهم في كتابِه وخطابِ سيدِ أحبابه؛ بقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، أكرِم هذه القلوبَ بإرادةِ وجهِك، بوجهك الكريم أكرِم هذه القلوب، مَن حضر ومَن يسمع بصدقِ إرادةِ وجهِك وحدَك، يا الله نبيت الليلةَ نريد وجهَك، ولا نُشرك في الإرادة غيرَك.. يا الله.. يا الله، وقد أمرتَ حضرةَ النبوة أن تمدَّ عينها إليهم وحدَهم، وقلتَ لنبيك: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ }.

اللهم أكرِمنا بنظرِك، نبيتُ الليلةَ وقلوبُنا تريد وجهَك يا الله، ألحَّ عليه فربما قبلَ الدعوةَ فيك، فأدخلَك في دائرة مَن يصطفيهم ومَن يجتبيهم، يا الله أكرِم قلوبَ الحاضرين والسامعين بإفرادِ القصدِ في إرادة وجهِك.. يا الله، وأنَّى لقلبٍ أن يُشرَّف بهذا المقصدِ الأعظم وهذا القصدِ الأفخم إلا بإمدادك وإلا بإسعادِك، وإلا بتفضُّلِك، وإلا بمنِّك، وإلا بتطوُّلك، فيا ربَّ القلوب ويا مقلَّبَها أكرِم هذه القلوب بإقبالها الصادق عليك، وأحلَّ فيها إرادةَ وجهِك وحدَك.. يا الله.

وأعظِم البركة للأمة في إقبالِ شهرِ ربيع الأول، واجعلنا مِن أسعد الناس به، وبما فيه وما تُنزله على أهليه، وذكرى حبيبك صلى الله عليه وسلم، اللهم خلِّقنا بأخلاقه، اللهم أدِّبنا بآدابه، اللهم سِر بنا في صوابِه، اللهم اسقِنا مِن شرابِه، اللهم اجعلنا في أحبابِه، يا أرحم الراحمين أكرِمنا بالنصيب الوافي من قُربك واقترابه، برحمتك يا أرحم الراحمين، وأصلح شئونَ المسلمين أجمعين، يا قوي يا متين يا أرحم الراحمين يا الله..

 وقُلها بالصدق يقبلها ربُّ العرش: يا الله، برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، أفرِد هذه القلوبَ في قصدِها فتريد وجهَك وحدك.. يا الله، والحمد لله رب العالمين.

لمشاهدة المحاضرة

للاستماع إلى المحاضرة

 

العربية