صِلة الأقربين - 8 - من قول المؤلف: (خاتمة قد علمت ممّا تقدَّم)

للاستماع إلى الدرس

شرح العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ لكتاب صلة الأهل والأقربين بتعليم الدين للإمام عبدالله بن حسين بن طاهر رحمه الله، ضمن دروس الدورة العلمية في موسم شهداء مؤتة الأبرار رضي الله عنهم لعام 1445هـ - الأردن

ليلة الإثنين: 13 جمادى الأولى 1445هـ

نص الدرس مكتوب:

"قد علمت ممّا تقدَّم أن التقوى ملازَمَةُ ما أمر الشرع أو نهى عنه؛ وهي خمسة:

·      الواجب؛ وهو: ما فرضه الشرع ، وفاعله مأجورٌ وتاركه آثمٌ. 

·      والمندوب؛ وهو: ما أمر به ولم يوجبه، وفاعله مأجورٌ وتاركه مضيعٌ غير آثم.

·      والحرام: ما نهى عنه لزوماً ، وفاعله آثمٌ متعرِّضٌ للعقوبة.

·      والمكروه: ما نهى عنه لا لزوماً ، وفاعله متعرّضٌ للوم لا عقوبة فيه، ومن ترك الحرام والمكروه لله . . أُجِر .

·      والمباح: ما لا ثواب ولا عقاب في فعله ولا في تركه، نعم؛ فعله للتقوِّي على طاعة الله إن أعان عليها حسنةٌ، والتوسع فيه للشهوات تضييعٌ للزمن واستئناسٌ بالعدم، وهو طريقٌ لركوب البلايا.

 ومن أطاع الله .. فقد نجا قطعاً، ومن عصى الله بإنكار وحدانيته أو كمال وصفه، أو بعثة الأنبياء أو كتبهم أو شيء من القرآن من المتواتر، أو البعث بعد الموت ، أو إنكار أحكام الشرع المجمَع عليها وهو عالمٌ، أو استهان بما عظّمه الله تعالى قطعاً؛ كالنبي والمصحف..  فهو كافر حلال الدم مخلّد في النار إن لم يتب ومن عصى الله بالكبائر أو الإصرار على الصغائر ... فهو فاسقٌ لا تُقبل شهادته، متعرّض للعقوبة إن لم يتب ولم يعفُ الله عنه ، أو بغير ذلك .. فأمره إلى الله ويُرجى له العفو.

فَصلٌ

من تهاون بالأدب .. عُوقب بحرمان السُّنن ، أو بالسنن . . عوقب بحرمان الفرائض، أو بالفرائض .. عوقب بحرمان الإيمان، والأعمال بخواتيمها، ومن أدمن على المعاصي وأصر عليها .. يخشى عليه سوء الخاتمة؛ وهو الموت على الكفر، نعوذ بالله من ذلك ، ونسأله العافية من كل بليّة وارتكاب المكروه يجرُّ إلى الحرام، والقول الفصل للسلامة من كل مکروه: أن ينظر: فما يجب أن يكون حاله عند الموت . . يستقيم عليه، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يُؤتى إليه.

فَصلٌ

قال الله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس:7-10]، فاعلم: أن التزكية التطهيرُ من الخبائث ظاهراً وباطناً؛ وهو التقوى الكاملة، والتَّدْسِيَة ضده، والنفس بطبعها الفاسد ، وحبها للعاجل ، وإغواء الشيطان لها .. محبةٌ للعاجلة، مائلةٌ إليها، غير ملتفتةٍ إلى العاقبة؛ فالموفَّق من زمَّها بزمام العلوم النافعة، وكلَّفها العمل بها، والنظر والعمل في ذلك طويلٌ إلا أنه بالنظر إلى الآخرة قليلٌ، ولا تستطيع ذلك إلّا بالصبر.

  والصبر على أداء الفرائض وترك المحارم فرضٌ، وعلى النوافل نفلٌ، وفي المصائب والآلام بترك الجزع والشكوى من الله فرضٌ، وما زاد نفلٌ، وعلى الأذى بترك الانتصاف نفلٌ له فضلٌ كثيرٌ، وعمَّا زاد عليه فرضٌ.

   وشُكر الله بأن كل نعمة منه فرضٌ، واستحضار ذلك بالقلب في كل حال أصلٌ عظيمٌ في الدين، وشكره بالقول أصله فرضٌ؛ وهو: الثناء عليه بجميل فعله، ومنه قوله: (الحمدلله)، وشكره بالفعل فعل الطاعات ففرضه فرضٌ، ونفله سنةٌ.

    والرضا بقضاء الله بالسكوت عن الاعتراض على الأقدار فرضٌ، وبقطع معارضات النفس وطبعها واضطرابها فضيلةٌ، وبرد القلب مع ذلك أفضل.

وما كان من ذلك من معصيةٍ أو مكروهٍ أو ترك فرض جرى باختيار العبد ... فيرضى به من حيث إنه تقدير الله تعالى، ويكرهه من حيث يكرهه الله تعالى ونهى عنه،  ويتعب عليه من حيث إنه مخالفة لأمر الله تعالى وموجب العقابه والصبر والشكر ركنان في الدين لا يخلو منهما شيء منه ؛ فلا فِعلَ طاعةٍ ولا ترك مخالفةٍ ولا مصاحبة حالٍ إلا بالصبر ومن استعان بالله حقاً أعانه ، ومن توكل عليه كفاه، ومن نسى الله أنساه نفسه، كما نُصَّ عليه.

 

الله لا إله إلا الله.. ولله الحمد، مبيِّن لنا الشريعة على لسان عبده محمدٍ صلى الله عليه وسلم ذي المراتب الرفيعة، والجاهات الوسيعة، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار في دربه، وعلى آبائه وإخوانه من أنبيائك ورسلك وآلهم وصحبهم وتابعيهم وملائكتك المقربين، وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

ذكر لنا في هذه الفقرة نظام الشرع المصون وما اختار الله تعالى لعباده من نظام في الحياة بعث به الأنبياء وجاء به خاتمهم سيدهم محمد صلى الله عليه وصحبه وسلم ، النظام يحكم على جميع تصرفات المكلفين من الإنس والجن على كل فعل وقول لهم وعلى كل نية ومقصد وعلى كل صفة قلبية وعلى كل حركة عضوية تحكم على كل واحدٍ من ذلك إما بالوجوب  وإما بالندب وإما  بالإباحة وإما بالكراهة وإما بالحرمة.

فهذا نظام الرحمن في أفعال المكلّفين من العباد وهو دستور الحق والهدى والدين،  يحكم على جميع أقوالنا وأفعالنا ومعاملاتنا وتحرّكاتنا وسكنّاتنا و مقاصدنا ونياتنا وصفات قلوبنا، يحكم عليها إما أن تكون واجباً لازمًا بحكم الشرع، وإما أن تكون مسنونةً مندوبةً مستحبة، وإما أن تكون مباحة مستوية الطرفين مستحبّة، وإما أن تكون مباحة مستوية الطرفين، وإما أن تكون مكروهة وإما أن تكون حرامًا ومحظورًا ومعصية؛ إذًا هذا النظام الرباني الذي يشمل حركة الإنسان في الحياة.

 

الأحكام الشرعية

 أولا: الواجب، "الواجب هو ما فرضه الشرع". 

  • قال: "إن التقوى ملازمة لما أمر به الشرع والانتهاء عما نهى عنه"، فما فرضه الشرع ورتّبَ الثواب على فعله والعِقاب على تَرْكه فهو الواجب. وفي معناه المفروض واللازم والمتحتم والمكتوب.
  •    فرّق الحنفية بين الفرض والواجب فما كان ألْزَمهُ بدلالة قطعية من القرآن أو السنة المتواترة فيسمونه: الفرض، وما كان دون ذلك فيسمى الواجب، 
  • ولم يفرق عامة الفقهاء بين الفرض والواجب واللازم والمتحتّم والمكتوب، فمعنى الجميع عندهم: "ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه"، ما جعل الله الثواب في القيام به و أدائهِ وجعل على تركه واضاعته وإهماله عقابًا وإثمًا وعذابًا؛ هذا هو الواجب وهو أول ما يُتقرب به إلى الرحمن في شاهد ما قال في الحديث القدسي : "ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضته عليه"،  اللهم ارزقنا حسن أداء الفرائض كلها بالإحسان والإتقان يا رحمن.

 ثانيًا: قال: "والمندوب"؛ المندوب وفي معناه؛ المستحب والنفل والمتطوَّع به والمرغّب فيه والسنة. كل هذا يراد به ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه.

  •  قال: "والمندوب هو ما أمر به الشارع ولم يوجبه، وفاعله مأجور وتاركه مضيّع غير آثم"، إنما يفوته الثواب. وعلِمنا أيضًا فيما تقدم أنهم جعلوا ما ثبت بالكتاب والسنّة هو من المستحبات، وهذا يُعبّر عنه بالسنّةِ عند الحنفية وبعض الأئمة. وما كان بمثل الإجتهاد والقياس يعبّر عنه بالمندوب أو المستّحب، وقال الشافعية وغيرهم إن قلنا مندوبًا أو مستحبًا أو حسنًا أو نفلًا أو متطوعًا به أو مرغّبًا فيه أو سنّة -فالمعنى واحد- ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه.
  • جُعل سياج الواجب المحافظة على المندوبات والمستحبات؛ فمن كان محافظاً على السنن فهو أكثر محافظة على الواجب.

ثالثا: الحرام ما نهى عنه الشارع لزومًا، وفاعله آثم متعرض للعقوبة فهو ما يثاب على تركه امتثالًا ويعاقب على فعله، هذا هو الحرام؛ المعصية والمحظور والإثم، كله بمعنى واحد.

رابعا: والمكروهات جُعِلت سياج على الحرام ومن اقترب منها اقترب من فِعلِ الحرام. "المكروه ما نهى عنه لا لزوماً، وفاعله متعرض للوم لا للعقوبة"، لا عقوبة فيه ولكنه حُرِم ثواباً، "ومن ترك الحرام والمكروه لله أُجِر"، يعني إن كان الترك بمجرد الطبع أو عدم الرغبة أوعدم القدرة فلا يؤجر عليه، ولكن إن كان متمكنًا ويقدر وتَرَكهُ لأجل الله، خوفاً من الله، رجاءً فيما عند الله؛ فهذا هو الذي يؤجر على الترك، ترك الحرام وترك المكروه.

  • وقد قال بعض أكابر الأمة من العارفين: إن أفضل الطاعات ترك المعاصي، أي ترك كل ما تقدر عليه من المعصية وما يعلم الله من قلبك أن ما لا تقدر عليه، لو قدرت عليه لآثرتَ تركه من أجله؛ هذا هو الغاية في عبوديتك له، أو هو السبب الأقوى في ارتقائك على مراتب العبودية له سبحانه وتعالى.

 

خامسا: "المباح ما لا ثواب ولا عقاب في فعله ولا في تركه"، ولكن "فعله للتّقوِّي على طاعة الله -إن أعان عليها- حسنةٌ" يثاب عليها، "والتوسع فيه للشهوات تضييع للزمن واستئناس بالعدم"، أي الأمر الذي أصله عدم، ويؤول إلى العدم؛ "وهو طريق لركوب البلايا"؛ من التنافس الغير الشريف، التنافس المَقيت على مُتع الدنيا وعلى ما فيها من مظاهر وهو الذي خافه النبي على هذه الأمة وهو الذي وقع فيه كثير من الأمة قال: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها"، ذلك التنافس الشريف للتفاخر والتكاثر والاستبداد والاستئثار بالأمر الغير الشريف؛ هذا التنافس الذي أهلك الأمم من  قبلنا: "فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم". وعلى هذا التنافس قامت أكثر الحروب الدائرة بين الناس وأكثر المخاصمات والمجادلات والمنازعات، تنافُس غير شريف، "فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم" و العياذ بالله تبارك وتعالى.

 

طاعة الله هي النجاة

قال: "ومن أطاع الله فقد نجا قطعًا" -اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك- (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا * ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ) [النساء:69-70] -اللهم تفضل علينا بهذا الفضل- (ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء:70]؛ ونزلت الآية بشرى لسيدنا ثوبان والصحابة الذين خافوا أن لا يلقوا رسول الله في الآخرة وفي دار الكرامة والجنة، وقالوا إن درجتنا دون درجته فكيف نراه؟ فبشرهم الله أنهم معه وأنهم يرونه ويرون معه الأنبياء الآخرين ويرون الصديقين (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ) [النساء:69]، فقرّت أعينهم بهذا الوعد من الله والجزاء الطيب الحسن الذي لم يرضوا بدله بنعيم الجنان وما فيها بدلاً عن لقاء سيدنا رسول الله ومكالمته ومخاطبته والجلوس معه فقد ذاقوا حلاوة ذلك في الدنيا فما عدلوا بها لذة أنهار ولا أشجار ولا بساتين ولا قصور من ذهب وفضة ولا زواجات ولا شيء من الشراب والطعام في الجنة ما يساوي عندهم ما ذاقوه من لذة رؤيته ﷺ ومكالمته ومخاطبته ﷺ -رضي الله عنهم- من أصحاب.

 قال أهل السنة: ولم يكن سيدنا ثَوبان وحده الذي فكر هذا التفكير فإن جماعة من الصحابة قالوا: كيف يكون حالنا في الآخرة؟ إن لم ندخل الجنة لم نَرَ رسول الله وإن دخلنا الجنة كنا في درجة دون درجته فلا نراه؟ فلا يطيب لنا العيش ولا الحياة في الجنة إلا برؤية رسول الله؛ فبُشِّروا ونزلت الآية: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء:69]، فنسأل جامعنا في هذه الدروس أن يجمعنا مع تلكُم النفوس التي زكاها من عباده الصالحين في دار الكرامة ويمكِننا من رؤية حبيبه محمد ﷺ بأوسع ما يمكِّن به محبوبيه في دار جنته؛ اللهم آمين، اللهم من غير سابقة عذاب ولا عتاب ولا فتنة ولا عذاب ولا توبيخ ولا عقاب. 

 "من أطاع الله فقد نجا قطعاً ومن عصى الله -إن كانت المعصية بالكفر- بإنكار وحدانية الله تعالى أو كمال وصفه" سبحانه وتعالى، أنكر صفة من صفاته التي يوصف نفسه بها" أو أنكر بعثة أحد من الأنبياء صلوات الله عليهم أو شيء من الكتب المنزلة أو شيء من القرآن الكريم، المتواتر في القرآن الكريم، "أو البعث بعد الموت" -أنكر البعث بعد الموت- أو أنكر "أحكام الشرع المُجمع عليها وهو عالم" بذلك، أواستهان بشيء عظّمه الله -تبارك وتعالى- كالأنبياء والمصاحف والمساجد؛ فالاستهانة بها والاستخفاف كفر -والعياذ بالله- وهذه أعظم معصية وهي كفر مُخرِج من الملة، من مات عليها تخلَّد في النار -اللهم أجرنا من النار.

"فهو كافر حلال الدم مخلدٌ في النار إن لم يتب"، وحلال الدم هذه بروابطها وضوابطها في الشرع هي بالنسبة للحاكم لإقامة الحد عليه، وبالنسبة للمحارِب من الكافرين وماعدا ذلك فليس لأحد أن يمد يده إلى دمه وإن كان مهدر الدم، وإنما يكون بإقامة حدٍ أو بجهاد في سبيل الله -تبارك وتعالى- ولا يكون إقامة الحد إلا عبر ولي الأمر.

 "ومن عصى الله بالكبائر أو الإصرار على الصغائر -من دون الكفر- فهو فاسق لا تقبل شهادته، متعرّض للعقوبة إن لم يتب ولم يعفُ الله عنه أو بغير ذلك، فأمره إلى الله -تبارك وتعالى- يُرجى له العفو"، يعني عصى الله بالكبائر أو الإصرار على الصغائر أو غير ما ذُكر من الكفر؛ فأمره إلى الله؛ إما أن يعفو وإما أن يعذِب؛ (يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ) [الفتح:14]، اللهم اغفر لنا فإنك بنا راحم ولا تعذبنا فإنك علينا قادر. (بعده)

 

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله بسندكم المتصل ورضي الله تعالى عنكم:

فصلٌ

من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن أو بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، أو بالفرائض عوقب بحرمان الإيمان والأعمال بخواتيمها، ومن أدمن على المعاصي وأصر عليها يخشى عليه من سوء الخاتمة؛ وهو الموت على الكفر، نعوذ بالله من ذلك، ونسأله العافية من كل بلية وارتكاب المكروه يجُّر إلى الحرام، والقول الفصلُ للسلامة من كل مكروه أن يُنظر: فما يحب أن يكون حاله عند الموت .. يستقيم عليه، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه .

 

الآداب حارسة للإيمان 

هكذا يقول أن الله جعل لنا في هذه شريعة آداب، والآداب هي المستحبات والمندوبات من غير ما نص الشارع على طلبه على وجه اللزوم، فهذه الآداب سياج للسنن؛ فآداب المجلس، آداب الكلام، آداب النظر، آداب المشي في الطريق، آداب الطعام، آداب الشراب؛ ما أُثر عنه صلَّى الله عليه وصحبه وسلم وما أُستنتج من الحث عليه والترغيب فيه في الكتاب والسنة وما تعلق بذلك. 

هذه الآداب؛ القيام بها حافظٌ وحارسٌ للإيمان وقوَّته بل مثمر لزيادته، ويحصل القرب بها إلى الرحمن، فالمتهاون بالآداب، تقع من عقوبة تهاونه بها، أن يُحرم سننًا كثيرة، والسنن النبوية العظيمة الثواب، حرمانها -والعياذ بالله -تبارك وتعالى- مؤدٍّ إلى خطر حرمان الواجبات؛ ولهذا يقول: "أو بالسنن" -يعني تهاون بالسنن- "عوقب بحرمان الفرائض أو بالفرائض" -تهاون بالفرائض- "عوقب بحرمان الإيمان" -والعياذ بالله تبارك وتعالى- بمعنى أن تارك الفرائض والواقع في المحرمات -إذا استرسل في ذلك- فإن الإيمان يضعف ويضعف حتى ينطفئ نوره من قلبه -والعياذ بالله تبارك وتعالى-.

 

المعاصي بريد الكفر  

 ومن هنا قالوا: المعاصي بريد الكفر، يعني رسوله التي تنذر بوصوله إذا استمر في المعاصي قال تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ) [الروم:10]؛ وقعوا في الكفر لأنهم عملوا السوء الذين أساؤوا واستمروا على الإساءة، فلهذا ينبغي عدم التهاون بالآداب وعدم التهاون بصغار الذنوب ولا بالمكروهات.

وقال: "والأعمال بخواتيمها" -أحسن يا رب خواتيمنا- والأعمال بخواتيمها، ومن أدمن على المعاصي وأصرَّ عليها يخشى عليه سوء الخاتمة وسوء الخاتمة على مرتبتين، ذكر منها:

  •  المرتبة الكبرى: وهو الموت على الكفر، أن ينزع الإيمان من قلبه عند الوفاة هذه أكبر سوء الخاتمة
  • وأخرى أن تخرج روحه وهو على معصية مع حفظ أصل الإيمان؛ هذا سوء خاتمة،
  • الثاني ما يُوجب الخلود في النار ولكن يوجب عذاب أولاً ثم الانتقال للجنة.
  • أما سوء الخاتمة الأشد والأكبر، أن يُنزع الإيمان كله -والعياذ بالله- من قلبه عند خاتمته وغرغرته فتقبض روحه وهو خارج عن الملة والعياذ بالله -تبارك وتعالى- فلا يُحْشر إلّا مع الكافرين والعياذ بالله. 

هذا لـ"من أدمن على المعاصي" ولم يتب منها ولم يخاطب نفسه بالبعد عنها واستسهلها واستساغها واستلذها فلا يموت غالباً إلا على الكفر -والعياذ بالله تبارك وتعالى-، نسأل الله كما الحسن الخاتمة فنعوذ بالله من سوء الخاتمة ونسأله العافية من كل بلية وأن يهدينا لأحسن الأعمال والأخلاق إنه لا يهدي لأحسنها إلا هو وأن يصرف عنا سيئها فإنه لا يصرف سيئها إلا هو -جلَّ جلاله-.

 

ارتكاب المكروه يجر إلى الحرام 

"والقول الفصل للسلامة من كل مكروه: أن يَنْظُر" -هذا العاقل والمسلم- ماذا يحب أن يكون حاله عليه عند الموت"؟ يلازمه، كيف تحب تموت؟ لازِمْ ما تحب أن تموت عليه. كل ما تكره أن تموت عليه، أي حالة وأي عمل تكره أن تموت عليه؛ اجتنبه وابتعد عنه لأنك لا تدري متى يهجم الموت، إذا قمت بهذا فقد سلِمت من الذنوب ومن المكروهات و استعددت للخاتمة الحسنة.

 قال: "فما يحب أن يكون حاله عليه عند الموت يستقيم عليه ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه"، ويحب للناس ما يحب لنفسه، ويأتي إليه ما يحب أن يؤتوه إليه؛ فذلك كمالٌ في الاستقامة. قال سيدنا طاووس -عليه رحمة الله- لمستوصٍ استوصاه، وقد جاء من بلدٍ بعيدة حتى وقف على بابه فقابله شايب، فظنهُ طاووس، قال: أأنت طاووس؟ قال: لا أنا ابنه، قال: أنت شايب وابنه،!! فلعله قد خرف! قال: لا، إن المؤمن لا يخرف، قال: فاستأذن لي عليه، فدخل يستأذن، فرجع عليه يقول: يقول لك أبي أوجز في الكلام فإنه آخر عمره وهو يحب أن يغتنم الوقت للاستعداد للآخرة فلا تطل الكلام، قال: مرحبا، دخل عليه وسلم عليه، وقال له : جئت لكي توصيني، قال: إذا تحب أن أجمع لك التوراة والإنجيل والزبور والفرقان في ثلاث كلمات؟ قال: ياحبذا، قال لي: اسمع! 

  • "خف من الله حتى لا يكون شيء أخوف عليك منه"، أي شيء تخاف منه دونه؛ الخوف من الله، الله أخوف عليك من كل شيء، فأسمع 
  • "وارجوه أكثر من خوفك منه"، واسمع 
  • "وأحب للناس ما تحبه لنفسك"؛ 

فإنك إن عملت بهذه الثلاث فقد عملت بما في التوراة والإنجيل والزبور، فقال: قم من عندنا يكفيك، -عليهم رحمة الله تبارك وتعالى-. قال: خِفْ من الله حتى ما يكون شيء أخوف عليك منه، لا فقر ولا موت ولا سجن ولا مرض؛ لا شيء أخوف عليك من الله، الله تخافه فوق كل خوف! قال وارْجْه أكثر من خوفك منه، وأحب للناس ما تحب نفسك، اذا أيقنتَ هذا؛ فأنت المستقيم والعامل بما في وحي الله كله.

 وهكذا قال الشيخ عندنا: "القول الفصل للسلامة من كل مكروه ينظر؛ ما يحب أن يكون حاله عليه عند الموت يلازمه، ويأتي للناس ما يحب أن يؤتى إليه"، اللهم وفقنا. قال: 

  • ومن فتح على نفسه باب حسن فتح الله له سبعين باباً من أبواب التوفيق، أنت تنوي النية الحسنة والحق يمدك بالتوفيق، 
  • ومن فتح على نفسه باب نية سيئة فتح الله له سبعين باباً من أبواب الخذلان -والعياذ بالله تعالى-.

اللهم اعمر أجسادنا وأجساد الحاضرين والسامعين ومن يوالينا فيك بطاعتك وجنبها معاصيك، واعمر قلوبنا بمعرفتك، واعمر أرواحنا بمحبتك، واعمر أسرارنا بمشاهدتك يا كريم اللهم اعصمنا من الشرك واغفر لنا ما دون ذلك اللهم اغفر لنا ما مضى واحفظنا فيما بقي. (بعده)

 

فصلٌ

بسم الله الرحمن الرحيم

 رضي الله تعالى عنكم وقال رحمه الله: فصل، قال الله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس:7-10]، فاعلم أن التزكية التطهير من الخبائث ظاهرًا وباطناً وهو التقوى الكاملة والتدسية ضده والنفس بطبعها الفاسد وحبها للعاجل وإغواء الشيطان لها مُحبة للعاجلة، مائلة إليها غير ملتفتة إلى العاقبة، فالموَفق من زمها بزمام العلوم النافعة وكلفها العمل بها والنظر والعمل في ذلك طويل إلا أنه بالنظر إلى الآخرة قليل ولا تستطيع ذلك إلا بالصبر والصبر على أداء الفرائض وترك المحارم فرض، وعلى النوافل نفل وفي المصائب والآلام بترك الجزع والشكوى من الله فرض، وما زاد نفل، وعلى الأذى بترك الانتصاف نفل له فضل كثير وعما زاد عليه فرض وشكر الله بأن كل نعمة منه فرض واستحضار ذلك بالقلب في كل حال أصل عظيم في الدين، وشكره بالقول أصله فرض وهو الثناء عليه بجميل فعله ومنه قوله الحمد لله، وشكره بالفعل فعل الطاعات ففرضه فرض ونفله سنة والرضى بقضاء الله بالسكوت عن الاعتراض على الأقدار فرضٌ وبقطع معارضات النفس وطبعها واضطرابها فضيلة وبَردُ القلب معه وما كان من ذلك من معصية أو مكروه أو ترك فرض جرى باختيار العبد فيرضى به من حيث إنه تقدير الله تعالى ويكرهه من حيث يكرهه الله تعالى ونهى عنه ويتعب عليه من حيث إنه مخالفة لأمر الله تعالى وموجب لعقابه، والصبر والشكر ركنان في الدين لا يخلو منهما شيء منه فلا فعل طاعة نفسه ولا ترك مخالفة ولا مصاحبة حال إلا بالصبر ومن استعان بالله حقا أعانه، ومن توكل عليه كفاه ومن نسي الله أنساه نفسه كما نُص عليه.

 

في التزكية: سعادة الأبد 

 يتكلم عن التزكية في هذا الفصل التي يترتب عليها الفلاح وهي سعادة الأبد، سعادة الدارين قال الله تعالى بقسمه، أقسم بالنفس وأقسم قبلها بمظاهر القوم كله في قوله (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس:1-8] -هذه الأيمان كُلها والحِلف هذا كله على ماذا يا رب؟- قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس:9-10]، اللهم آتي نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها. قال:  "التزكية" معناها: "التطهير من الخبائث ظاهراً وباطناً"، قال: "وهو التقوى الكاملة، والتدْسية ضد" ذلك. الوقوع في الخبائث ظاهراً وباطناً وهي الفسق والمعصية.

 

 طريق التزكية

 "والنفس بطبعها الفاسد وحبها للعاجل وإغواء الشيطان لها محبة للعاجلة مائلة إليها"، العاجلة: هي الدنيا القصيرة، مع تيقنها أنها زائلة تميل إليها وتحرص عليها غير ملتفتة إلى العاقبة والمدى الطويل وهي توقن أنه لا نهاية له، "فالموفق من زمَّ نفسه هذه بزمام العلوم النافعة"؛ هذه طريق التزكية، زمَّ نفسه بزمام العلوم النافعة وهي التي تقربه إلى الله، وهي التي تبين له نظام الله في حركة الحياة وتُرغِبهُ في فعل المحبوب لله وفي كراهة المذموم عند الله تبارك وتعالى. 

هذه العلوم النافعة، "من زمَّ نفسه بزمام العلوم النافعة وكلفها العمل بها" وبمقتضاها بالتكلف في البداية حتى يستلذها وتصير حلاوتها معجَّلة له من النعيم قبل حلاوة النعيم في الآخرة، قال: "والنظر والعمل في ذلك طويل" ويحتاج منا إلى مجاهدة وإلى مكابدة إلا أنه إذا نظرنا إلى الآخرة ودوامها رأيناها قليل ويسير لكنك لا تستطيع القيام بذلك والنظر في العلوم والعمل بمقتضاها إلا بالصبر؛  ولهذا إذا مرّ الملائكة على أهل الجنة يسلِّمون عليهم:

  •  لأهل الجنة سلام بينهم البين،
  • ولأهل الجنة سلام يُبعثُ من الأكابر إلى الأصاغر؛ يرسل سلام من أهل النبوة من أهل الرسالة فلان يأتي الملك يقول يسلم عليك، وسلام من الملائكة يسلمون عليك، 
  • وسلام يبعثه رب العرش إلى عبده ويقف الملك يقول" يا ولي الله أساكن في الجنة، أنا مرسل من الله لك، إن رب العرش يقرئك السلام 
  • ومن أهل الجنة من يكشف له الحجاب ويسمع السلام من ربه (سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) [يس:58]، (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ) [الأحزاب:44]، 

فالملائكة إذا جاءوا بالسلام من عند أنفسهم يسلمون على أهل الجنة: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ) [الرعد:23-24]، لا يذكرون إلا الصبر من أعمالهم كلها؛ لأن جميع أوصافهم الصالحة ومراقيهم  التي ارتقوا إليها حصلت بسبب الصبر، فيقولون: (سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد:24]، فنحن محتاجون لهذا الصبر وأن نوفق بعده للشكر، فيتم لنا الإيمان بالصبر والشكر، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

 

مراتب الصبر 

  • "والصبر على أداء الفرائض وترك المحرمات فرضٌ، -والصبر- على النوافل" وأدائها والإحسان فيها، 
  • "وفي المصائب والآلام؛ بترك الجزع والشكوى من الله فرضٌ"، "والصبر على النوافل نفل" 
  • "وما زاد" على ذلك من الصبر حتى لا يحس بمرض من حواليه فهو؛ "نفل". 

وهكذا قال توجَّع الامام أحمد بن هاشم الحبشي. قال: آه،  قال رفيقه الإمام الحداد، مالك؟ قال: عقرب لسعني، قال: وانت أحمد بن هاشم الحبشي، في سير الى الله وطريق وتُظهر الجزع من عقرب؟ أين صبرك؟ أين سيرك في الطريق؟ قال هات يدك ووضعها فإذا به فيه حمى قال له: عندك حمى! قال خمس سنين أهل بيتي ما يدرون بها، عندي حمى لها خمس سنين حتى أهل بيتي ما يدرون بها! أما تعرف الصبر؟ أنكر عليه لماذا يصيح ويتضجَّر من لسعة العقرب؟! قال: أنت بحالك هذا تتحمل هذا ولا تظهر شيء أي جزع ولا صياح -عليهم رضوان الله تبارك وتعالى-. 

وسيدنا أبو بكر الصديق وضع رجله في ثقب في الغار وصادف أن فيه حية، ولما دخل النبي الغار ونام على رجله وخرجت الحية تلسع به، فما حرك رجله لئلا يزعج رسول الله من النوم، هل تعرف لسع الحية! لسعة تليها لسعة أخرى، حتى اشتد الألم  عليه فتساقط الدمع من عينه، فوقعت قطرة على وجه رسول الله ففتح عينيه قال: ما لك يا أبا بكر؟ قال: حية تنهشني يارسول الله، قال: ناولني رجلك فبصق عليها وقرأ فذهب عنه كل شيء، قال: أخرِجها، فأخرج الحية وقتلها، حية تلسع وهو لا يتحرك، ما هذا الصبر؟! رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم. وهذا يُصلِّي ويعد نفسه خاشع وخاضع، لو جاء ذباب صغير أو بعوضة لتقاتل هو وإياها وسيتحرك لها. 

سيدنا الإمام مالك وهو في الحديث النبوي الشريف لسعته العقرب ستة عشر لسعة في ظهره إلى أن رأوا وجهه يحمر وهو يلقي الحديث حتى أكمل،  فلما أكمل الحديث قالوا انظروا ماذا في ثوبه فوجدوا العقرب، قالوا يا إمام من أول مرة كنتَ تنبهنا، قال: كرهت أن أقطع حديث رسول الله ﷺ؛ تعظيمه لحديث رسول الله لم يجعله يقطع الحديث من لسعة العقرب، ولا ألمها ولم يشعر بشيء -عليه رضوان الله تبارك- وهكذا الأئمة. رزقنا الله الصبر وأكرمنا بالشكر في عافية.

 قال: "والصبر على الأذى بترك الانتصاف نفلٌ له فضلٌ كثير، وعما زاد عليه فرضٌ"، يعني  يصبر فيأخذ أكثر من الانتصاف، يأخذ أكثر من الحق، أما يترك الصبر فيأخذ أكثر من حقه هذا حرام، بل يجب عليه أن يصبر ويُسن أن يصبر إلى حد الانتصاف، وما زاد على حد الانتصاف فيجب عليه أن يصبر عنه ويشكرُ الله: "اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"؛ بأن كل نعمة منه فرض، "اللهم ما أمسى بنا من نعمة أو بأحدة من خلقك فمنك وحدك" على الأدميين كلهم، وعلى الحيوانات كلها وعلى الجن كلهم وعلى الملائكة كلهم في السماوات والأرض كلها والله منه وحده، فتوهُّم الأسباب أنها فاعلة بذاتها؛ هذه نعمة بسبب الشركة الفلانية، وهذه النعمة بسبب الوزارة الفلانية، وهذه النعمة بسبب الدولة الفلانية؛ وهمٌ باطلٌ يجب عليك أن تشهد حقيقة المُنعم بها وهو الله -جلَّ جلاله-. "ما أمسى بي من نعمة أو بأحدٍ من خلقك"؛ أنت والصغار والكبار والمأمورين والأمراء والملوك والمملوكين والأولين والآخرين وأهل السماوات والأرض؛ كل نعمة عند أي واحد منهم فمصدرها الحقيقي رب العالمين، هي من الله؛ "فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر على ذلك".

قال: أن تشهد أنها من الله فرض

  • والشكر بـ"استحضار ذلك بالقلب في كل حال أصلٌ عظيم في الدين"،
  • "وشكره بالقول أصله فرض، وهو الثناء عليه بجميل فعله، ومنه قولك "الحمد لله"، والحمد لله تملأ الميزان،
  • "وشكره بالفعل فعل الطاعات ففرضه فرض ونفله" نفل! شكرُ الله بفعل الواجبات واجب، وبفعل المسنونات سُنة،

"والرضا بقضاء الله بالسكوت عن الإعتراض على الأقدار هذا فرض، وبقطع معارضات النفس وطبعها واضطرابها فضيلة" وسنة، "وبَردُ القلبِ" مع ذلك أفضل وهو درجة المقربين والصديقين تبرد قلوبهم، حتى يقول سيدنا عمر بن عبدالعزيز: أصبحت ما لي هوى ولا رغبة ولا محبة إلا في مواضع القدر والرضا بالقدر ما قدَّر الله تعالى راضٍ بما قدّر.

وكن راضٍ بما  قدّر المولى ودبر

 

وقال: "وما كان من ذلك من معصية أو مكروه أو ترك فرض جرى باختيارك أيها العبد"؛ فلك فيه وجهان: 

  • وجه من حيث أنه مقدَّر من قِبل الله ترضى بذلك، 
  • ووجه من حيث أنه من فعلك واختيارك يجب أن تكرهه ويجب أن تتوب منه ويجب أن تبتعد عنه بكل مقدورك، 

قال: "فيرضى به من حيث أنه تقدير الله تعالى ويكرهه من حيث أن الله يكرهه"، وأن الله "نهى عنه ويتعب عليه منه حيث أنه مخالفة"، يعني يتألم ويندم لأنه خالف أمر الله- تبارك وتعالى- وهذا أمر يوجب عقابه -سبحانه وتعالى-. 

قال: "والصبر والشكر ركنان في الدين -اللهم مكّنا فيهما- لا يخلو منهما شيء منه فلا فعل طاعة"؛ كل الدين يحتاج إلى صبر وشكر؛ فجميع الدين صبر وشكر، "فلا فعل طاعة ولا ترك مخالفة ولا مصاحبة حال إلا بالصبر، ومن استعان بالله حقًا أعانه"، فنستعين الله على نفوسنا ونستعين الله على وجهتنا إليه ونستعين الله على وفائنا بعهده، نستعين الله أن يقربنا إليه زلفى وأن يحققنا بحقائق الصبر والشكر. 

"ومن استعان بالله حقًا أعانه، ومن توكل عليه كفاه، ومن نسي الله أنساه نفسه"، (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ) عند نسيانهم لأنفسهم يفعلون القبائح ولا يبالون ويسقطون في المحرمات وينسون أنفسهم مهما تعرضوا لكل قبيحة ولكل سقطة ما يبالون بها، نسوا أنفسهم (نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) [الحشر:19-20]، أكرمنا بحقيقة من حقائق الصبر والشكر نلحق بها بعبادك الصابرين الشاكرين الذاكرين الموفقين برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

 ما الفرق بين الآداب والسُنن؟ 

وهذا الذي أشرنا إليه ما بين الأدب والسنن وأنَّ ما لم يثبت بالأحاديث الصحيحة والآيات، ولكن استنبط من ذلك وكان سياجًا له؛ فهذا هو الأدب. وما ثبت بالأمرِ به في السنة والكتاب فهذا هو السنن، عند التفريق بين الآداب والسنن. 

وقد ارتقى الصحابة الذُرى بحسن الأدب، وكانوا يجلسون بين يديّ نبينا كأن على رؤوسهم الطير، ما يحدون نظر لي تعظيمًا له، وإذا قال أنصتوا لقوله، وإذا أمر ابتدروا لأمره. وكان في آدابهم تلك إذا توضأ جمع ماء وضوئه حتى كادوا يقتتلون عليه تسابقًا إلى ذلك الماء، وجاءنا في الصحيح قال: فوجدت من لم يجد منهم بللًا أخذ من يدي صاحبه فتمسح به؛ هذه الآداب الشريفة الكريمة رزقنا الله القيام بحقها.

 

سؤال: ويقول كيف يكون رد السلام على أهل الكتاب إذا سلّموا؟

 يجب الرد، وأقله الواجب "وعليكم" فهذا يكفي بالنسبة لغير المسلم إذا سلّم عليك، يكفي أن تقول له "وعليكم" 

فإن كنت تخشى أنهم من أهل المكر وتحريف اللسان بالسلام فتكتفي بذلك، وإن كنت تأمن ذلك منهم تعلم أنهم من جيرانك وأصحابك فلا بأس أن تقول: "وعليكم السلام"؛ لأنك مسالم لهم وهم مسالمون لك في هذه الذمة التي هي عندك و هذا الأمان الذي موجود بينكم، فأنت بينك وبينهم سلام.

 فأما إذا خفت أنهم من المكارين فلا تزد على قوله: "وعليكم"؛ لأن بعضهم يقول: السام، السام يعني الموت، "السام عليكم" كما كان يفعل بعض اليهود، وهذا الذي لاحظته السيدة عائشة؛ دخل بعض اليهود وقالوا السام عليكم يا محمد قال النبي: "وعليكم"، قالت السيدة عائشة: عليكم اللعنة والموت وكذا وكذا، قال يا عائشة: إن الله لا يحب البذاءة قالت: ألا تسمع ما قالوا؟ قال: ألم تسمعي ما قلت؟ قالوا كذا وقلت لهم وعليكم الموت، الموت علينا وعليكم ولكن فرق؛ أنتم ستموتون إلى نار ونحن سنموت إلى الجنة، والموت قدر على الكل، فهكذا كان عقله وأدبه ﷺ. وهكذا كذلك أهل الكتاب إذا سلموا فأقل الواجب في الرد تقول: "وعليكم"، الرد على المسلم لا بد أن يقول: "وعليكم السلام" أقله، وأفضل منه "ورحمة الله وبركاته".   

 

رزقنا الله الاستقامة واتحفنا بالكرامة؛ أنت السلام ومنك السلام وإليك يعود السلام، فحينا ربنا بالسلام وأدخلنا برحمتك دارك دار السلام، يا ذا الجلال والإكرام، وبعض أهل الجنة يأتيه كتاب مع الملك وليس خطاب فقط: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحي الذي لا يموت، إلى من أحييته في الجنة بإذني فجعلته حيًا فيها لا يموت. لاإله إلا الله.

 ويأتيه كتاب من الرب وفيه سلام. الله أكبر! ما أعجبه! والأعجب منه قومٌ يكشف لهم الحجاب ويسمعون السلام من رب الأرباب (سَلَامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) [يس:58]، الله يكرمنا بهذا الله ينعم علينا بهذا، الله يمنحنا هذا، الله يتحفنا بهذا، ويزيدنا من فضله ما هو أهله يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.

 بسِرَ الفاتحة إلى حضرة النبي محمد 

اللهم صلِّ وسلم وبارك علي وعلى آله وأصحابه.. 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

14 جمادى الأول 1445

تاريخ النشر الميلادي

26 نوفمبر 2023

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام