تفسير سورة الكهف - 2 - من قوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا .. ) الآية 7 إلى 11

للاستماع إلى الدرس

تفسير فضيلة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للآيات الكريمة من سورة الكهف: 

 إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) 
 

مساء الإثنين 23 شعبان 1445 هـ 

نص الدرس مكتوب:

الحمد لله مكرمنا بالوحي والتنزيل، والبلاغ على يد رسوله خير هادٍ وخير دليل، ﷺ وبارك وكرّم عليه وعلى آله وأصحابه والمتابعين لهم بإحسان، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، من رفع الله لهم القدر والشأن، وعلى آلهم وصحبهم وتابعيهم والملائكة المقربين، وعباد الله الصالحين أجمعين، أولي العرفان، وعلينا معهم وفيهم إنه أكرم الأكرمين الإله الرحمن.

وبعد،،،

 فإننا في نعمة تأملنا لكلام ربنا سبحانه وتعالى وتنزيله، وما أوحى إلى حبيبه ورسوله ﷺ، وصلنا إلى أوائل سورة الكهف، وذكرنا البداية بالحمد وما ذكر الله تبارك وتعالى عن وحدانيته، ودعوى الذين يدَّعون أن الله تعالى ولدًا، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وأنه لا يقوم أقوال جميع الملحدين والكافرين، وجميع أقوال من خالف منهج الله على شيءٍ من العلم أصلاً، ولا على مستندٍ من الواقع والحقيقة قط.

(مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)).

 وبيَّن لنا ما طبع عليه نبيِّهِ من الرحمة والشفقة، والحرص الشديد على الأمة عامة والمؤمنين خاصة. (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6))

وذكر لنا -جل جلاله- حكمة الخلق والإيجاد، وأن ما على ظهر الأرض زينةً لها، وثم تنتهي وتنتهي زينتها، وأن المقصود في الخلق الإختبار، (.. لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7))، كما قال تبارك وتعالى: (..خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ..) [الملك: 2].

 وهكذا قال: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7))، 

فالذين يغترون بما على ظهر الأرض، ويردُّونه كأنه المقصود، وكأنه الغاية، يقعون في شباك الأوهام والخيالات والضلالات، ويردُّون الحق الذي يبعث الله بهذا الحق وهو الذي يبعثه الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، ويغترون بزخرف هذه الحياة الدنيا، وما فيها من شهوات، وملاذ مؤقتات خُلِقَت للإختبار، خُلِقَت للابتلاء، خُلِقَت للامتحان.

 فحينئذ.. يظهر بالإختبار من أحسن عملاً ممن آثر الله مما على زينة الأرض، واتخذ زينته هو تقوى للإله الذي خلق، واستعدادًا للقائه -جل جلاله- وتزوُدًا من هذه الحياة القصيرة، فتزيَّن بالزينة الدائمة الباقية العلية الرفيعة؛ زينة الإيمان، وزينة التقوى للرحمن، في السر والإعلان -فنعم الزينة- ما عدا ذلك، من أموال، ومن ابنيه، ومن زراعات، ومن أشجار، وما إلى ذلك، فهو زينة للأرض، لأجل الاختبار، وليس زينة لنا (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)).

يقول الله وهذا الذي على ظهر الأرض كله (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8))، مستويًا صعيدًا واحدًا جرزًا، لا نبات فيه، ولا شجر فيه، ولا ارتفاع ولا انخفاض، (لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) [طه: 107]

 (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8))، إذًا فمن الخروج عن حُسن استعمال العقل، الركون إلى زخرف هذه الحياة والاغترار بها، وهي آيلة إلى الفناء والزوال والانتهاء، ثم أن مظاهر هذا الفناء والزوال -ما بين أصناف الناس أفراد وجماعات- واضح في الحياة، والحياة كلها معرضة للزوال الكلي (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [ابراهيم: 48]. 

 يقول -جل جلاله: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)).

وأتى بملمح عن مجيئهم إلى الكهف، والكهف؛ بقعة في الجبل، وغارٌ أوى إليه ناس صالحون، فسموا بـ "أصحاب الكهف" وسمي باسم كهفهم سورة في القرآن "سورة الكهف".

 وإذا نظرت إلى البلاد وجدتها تشقى كما تشقى الرجال وتسعد، كم كهوف في العالم، وفي الجبال، لكن هذا الكهف سورة باسمه مخصوصة، وفي الأولياء الذين فيه، قال الله: (..أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ..)، سماهم أصحاب ونسبهم إليه، و خلَّد ذكرهم -جل جلاله- وتعالى في علاه، وصارت أخبارهم تقرأ في الصلوات، وخارج الصلوات على لسان خير البريات ﷺ بما أوحى رب الأرض والسماوات -فسبحان الله-.

 يقول: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)) هل ظننت أن أصحاب الكهف؛ الغار الذي آوى إليه أولئك الفتية -كما سيبين لنا فيما يأتي- والرقيم؛ ما بين مرقوم مكتوب؛ وذلك أنه عند غيبتهم عن قومهم؛ رقموا في لوح أخبارهم، وأسماءهم، وفقدهم، وسنة فقدهم، ولم يدروا أين هم، أو اسم المكان، أيضًا والمنطقة أو الوادي أو الذي هم حواليه أو الذي فيه الكهف، يقال له الرقيم. 

يقول: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9))، يعني مهما رأيت من عجبٍ في أخبار أهل الكهف، فإن آياتنا عجب.

 قالوا للسيدة عائشة -بعض الصحابة بعد وفاته ﷺ- حدثيني بأعجب ما رأيتِ من أحوال رسول الله، قالت: وبم أحدثكم؟! كان كل حاله عجب، كل شأنه كله عجيب ﷺ.

 وكذا الحق يقول لحبيبه: وقالوا لنا في الوجود وما علمناك أنت وآتيناك وما أطلعناك عليه، أعظم مما أتينا أهل الكهف وغيرهم، فعجائب ولكن عندنا ما هو أعجب.

 (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9))، فيهم عجب، ولكن لا ينحصر العجب في هؤلاء، فمثل ذلك فيما خلقنا من السماوات والأرض، وابدعنا من الكائنات، وما أجرينا على أيدي الأنبياء والمرسلين، وما خصصناك به وما أريناك إياه (لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ) [النجم: 18]، (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء: 1]. 

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)) ففي هذا اللفظ والتعبير، قل أن مهما كان من عجب في هذه القصة وأخبارهم، فعندك ما هو أعجب، وعند آياتنا كلها عجب، فيها عجائب كبيرة (..كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ..(10)).

 (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ..) لجأوا وذهبوا إلى هذا المكان لماذا؟ لأنهم في مكانهم دُعوا إلى الكفر بالله، إلى أن يتخذوا مع الله إلهًا آخر، إلى الشرك بالله والعياذ بالله تبارك وتعالى، وضيقوا عليهم حياتهم، فأووا إلى هذا الكهف يعبدون الله تعالى.

 (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ..) الفتية: جماعة من الشباب الموجودين في ذاك الزمان، وكما تقدم معنا كان من أسباب نزول الآيات، سؤال المشركين بتعليم بعض اليهود لهم سألوهم عن فتية ذهبوا في ماضي الدهر أو سابق الدهر.

 يقول: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ..)  فكانوا شباباً في أيام شبابهم، وفي هذا إذًا إشارة إلى أن قوة التأثير تكون في مرحلة الشباب، سلبًا وإيجابًا، ومن شب على خير فهو بعد ذلك في شبابه أوثق في الشيخوخة وكبره أوثق في الخير وأقوى، ومن شب على شر كان كذاك، لكن في أيام الشباب العرضة أقوى للتأثير الإيجابي والسلبي، فالتغير الذي يحصل فيما بعد قليل، يحصل التغير في الشباب أكثر والانتقال من فكر إلى فكر، ومن اعتقاد إلى اعتقاد، ومن هذه الحالات في وقت الشباب.

 (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ.. (10))،  هؤلاء الشباب المرموقين المخصوصين من الله بالخير (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ.. (10)) اتخذوا لهم مكاناً، وهكذا الحق تبارك وتعالى، جعل هذه الأرض كرسيًا للخلافة عنه للصادقين المخلصين من النبيين وخاصة أتباعهم (..إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [ البقرة: 13]، وابتدأت بظهور أبينا آدم عليه الصلاة والسلام في العالم الجسماني، ومع ذلك جعل العدو إبليس أيضًا، يقتنصُ من قدرَ عليه (قَالَ…(لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 62]، (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [ الأعراف: 17]، فهم موجودون أيضًا على ظهر الأرض، فتختلف الأحوال من وقت إلى وقت على مدى القرون، بظهور الحق والهدى، والخير، وبظهور الشر والباطل والفساد، ويغلب هذا ظهور هذا أو ظهور هذا، حكمة من حكم الله تبارك وتعالى، وفترات كانت بين الرسل، يكاد يضيع الدين وينتهي من على ظهر الأرض، فيجدده الله ببعثة الأنبياء، حتى جاء خاتم الأنبياء صلى الله وسلم عليه وعلى آله، وآتى الله تعالى الصلحاء العلماء الأتقياء، في هذه الأمة، مهمات كانت للمرسلين في التجديد للدين، والمحافظة على هذا الخير، وعلى هذا الهدى، فلا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، ويحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، فالحمد لله على هذه النعمة في هذه الأمة. 

ولكن في خلال هذه الظروف والأحوال، قد يغلب الشر والباطل في مكان فيحتاج  للناس أن ينتزحوا من ذلك المكان ويبتعدوا إلى مكان، وقد قال الحق تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ ) [النساء:97]

 فكذلك هؤلاء الفتية من الصالحين من بني إسرائيل أووا إلى الكهف وخرجوا من ديارهم وخرجوا من أهلهم وخرجوا من مزارعهم، وخرجوا من أموالهم إلى الكهف؛ من أجل أن يؤدوا عبادة الرب ومن أجل أن يطيب لهم الاتصال بهذا الإله من دون منازعة ومن دون تشويش؛ فخرجوا بهذا، وتركوا ديارهم وأموالهم وذهبوا إلى الكهف.

 (إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡيَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ) أي: يا ربنا؛ نادوا ربهم -جل جلاله- إذًا فهناك عمل وترتيب وإقامة سبب ولكن اعتماد على المولى وثقة بالإله ورجوع إلى الحق وخضوع له ودعاء وتضرع. 

قالوا: (رَبَّنَآ ءَاتِنَا..) أعطنا (مِن لَّدُنكَ) من حضرة فيضك وإحسانك الربانية الرحمانية (..ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةٗ وَهَيِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدٗا (10)) يرشدنا إلى ما هو أحب وما تحب ما هو أحب إليك أن نقوم به في حياتنا هذه، في أحوال قومنا هؤلاء الكفار والذين أشركوا بك والذين يدعوننا إلى الشرك ويدعوننا إلى الكفر والبعد عن الدين؛ فما تحب منّا أن نصنع و ما هو أحب إليك أن نقضي به باقي أعمارنا.

 (رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةٗ وَهَيِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدٗا (10)ك) وهكذا يجب على المؤمنين في مختلف الظروف والأحوال أن يقيموا ما يستطيعوا من الأسباب بضوء ما وصلهم من خطاب الحق ورسله، ثم بعد ذلك يصْدقون اللجاء إلى المولى والتضّرع له والخضوع له، ثقة به واعتمادًا عليه وتفويضًا إليه -جّل جلاله- وهو سيأخذ بأيديهم ويتولّى ظاهرهم وخافيهم ويرفعهم ويرقّيهم وهذه سنته مع كلّ من يصْدق معه ـجّل جلالهـ وتعالى في علاه ونعم الإله، ربّنا الله -جلّ جلاله- (رَبَّنَآ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةٗ وَهَيِّئۡ لَنَا..) يسّر لنا وسخّر لنا  (..مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدٗا (10)) مسلكا رشيدا.

 وفي السورة نفسها علّم الله نبيه أن يقول -وهو أرشد الخلائق-(عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا)  [الكهف:24] فيحب على كل مقرّب وكل صالح ما هو أقرب وما هو أطيب وما هو أرشد في عطاءٍ جلّ عن الإنقطاع وجل عن الحد وجلّ عن الانحصار.

 وهكذا من اتّصل بالكريم الغفّار وأخذ العبرة من هؤلاء المتصلين بالفاني المنقطع الزائل، كيف تمتد أطماعهم وكيف تمتد أمنياتهم ويتعاملون معه، لو له وادي من ذهب؛ تمنّى ثاني وتمنّى ثالث، وهم كيف الآن!! يتعاملون وعندهم من الأموال ما يكفيه ويكفي أهله ويكفي أولاده ويكفي أولاد أولاده؟ ولا يزال.. والذين عاملوا الله تعالى هم أرغب وأحب (..وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ ) [البقرة:165] فلا يزالون. 

قال الله لسيدهم: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْوَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب) [العلق:7-8] -جل جلاله- فيطلبون الزيادة من الحق -جلّ جلاله- وتعالى في علاه

والحق يواليهم يقول سبحانه وتعالى: (فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ) بدأنا ترتيبنا الخاص معهم بما أحببنا منهم، وأحببنا أن نجعلهم فيه من المراتب والمقامات، وأن ننفع بهم من يكونوا في زمانهم أو في تلك الحقبة من الوقت يقول: (فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ) وجاءت هذه الترتيبات، أووا إلى الكهف ودعوا الرب -جل جلاله.

 إذاً الإيواء إلى الكهف إيواء أجساد وإقامة أسباب وأما حقيقة الإيواء قالوا: ( رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ) ما أووا إلا إلى ربهم -الله أكبر- 

  • وإذا أوينا إلى الفراش علّمنا زين الوجود أن نقول: باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه،
  •  وقال لسيدنا علي وسيدتنا فاطمة: إذا أويتما إلى فراشكما فسبّحا الله ثلاثا وثلاثين واحمداه ثلاثا وثلاثين وكبّراه أربعا وثلاثين فحقيقة اللجاة 
  • ويقول اللهم أني أسلمت نفسي ووجهت وجهي وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجأ منك

 إلا كذلك أصحاب الكهف.

 وبذلك يقول أرباب المعرفة: كل من أوى إلى كهف الذل لله والانكسار والمسكنة والإفتقار وسأل الغفار، فالإجابة حاصلة.

 (فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ فِي ٱلۡكَهۡفِ) ثم جاء الجواب مباشرة فتأوي إلى كهف الأدب مع الرب والخضوع والخشوع والتذلل وتقول: (رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةٗ وَهَيِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا..) تراه سيؤيدك كما أيَّدهم وينصرك كما نصرهم ويأخذ بيدك كما أخذ بأيديهم.

 قال تعالى: (فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ فِي ٱلۡكَهۡفِ..

(فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ..) يقول: أنزلَ النوم عليهم وأبعدَ سبب الاستيقاظ، وبسبب الاستيقاظ أن يسمعوا الصوت مفجعا، يسمعوا شعور خلال الفترة هذه، ممكن أي صوت يحدث، ممكن أي رعد يأتي ممكن أي شيء يفاجئ.

 (فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ..) صار خلاص ماعاد يسمعون شيء، لا شيء يوقظهم-

(فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ فِي ٱلۡكَهۡفِ سِنِينَ عَدَدٗا (11)) لأن النايم لما ينام يبقى السمع شغال إلا أنه جامد، وما يفسرها المخ والعقل إلا إذا ذكرتَ اسمه: فلان؛ يحس أو يكون على صوت نام مثل صوت مكينة عنده شغالة وهو نايم نايم وإذا وقّفت انتبه ، مالذي حصل؟! يقول: الصوت انقطع، كيف؟ أنت نائم، ماتدري، هو نائم، لكنه مع نومه، فهذا السمع لا يزال شغاّل وباقي 

ولذلك قُلَ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ) من غير الله يأتيكم بضياء؟ 

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ) [القصص:71] لأن السمع مسْتمر أما البصر للمستيقظ فقط، البصر موقَّف، المستيقظ يبصر قال لهم: (أَفَلَا تُبْصِرُونَ) في الآية الثانية قال: (أَفَلَا تَسْمَعُونَ) لأن هؤلاء عندهم شغّال السمع، البصر مغمضين لا يرون شيء (أَفَلَا تَسْمَعُونَ) و (أَفَلَا تُبْصِرُونَ). 

وهكذا (فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ فِي ٱلۡكَهۡفِ سِنِينَ عَدَدٗا (11)) ثم ذكر لنا عدد السنين فيما يأتي (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) [الكهف:25]

 (سِنِينَ عَدَدٗا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ) وهذا مجمل لأصل القصة ثم فصّلها من بدايتها سبحانه وتعالى كما قال لنبيه: (نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ)  [الكهف:12] 

صلوات الله على نبينا وعليهم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين  والعباد الصالحين.

 ملأ الله قلوبنا بالإيمان، ملأ الله قلوبنا باليقين ثبَّتنا الله على مايحب، جعلنا في من يحب رفعنا على مراتب محبته ومودته ومعرفته والأدب معه والإخلاص لوجهه الكريم وثبَّتنا على الحق فيما نقوله، فيما نفعله، فيما نعتقد، وَوَقَانَ كُلَّ سُوء أحَاطَ بِه عُلْمَه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنَّهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمُ الْرَاحِمِينَ.

 

 

                            

 بسرِ الفاتحة 

وإلى حضرةِ النَّبي اللَّهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه، 

الفاتحة

تاريخ النشر الهجري

26 شَعبان 1445

تاريخ النشر الميلادي

06 مارس 2024

مشاركة

اضافة إلى المفضلة

كتابة فائدة متعلقة بالمادة

الأقسام